فصل: النَّوع العِشْرُون: المُدْرج ُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


النَّوع العِشْرُون‏:‏ المُدْرج ُ

هو أقْسَامٌ‏:‏ أحدُهَا‏:‏ مُدْرجٌ في حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأن يذكر الرَّاوي عَقِيبهُ كلامًا لنفسهِ، أو لغَيْرهِ، فيرويهِ من بَعْدهُ مُتَّصلاً فيُتَوهَّمُ أنَّهُ من الحديث‏.‏

النَّوع العِشْرون‏:‏ المُدْرج‏.‏

هو أقْسَامٌ‏:‏ أحدُها‏:‏ مُدرج في حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأن يذكر الرَّاوي عقيبه كلامًا لنفسه، أو لغيره، فيرويه من بعده متصلاً بالحديث من غير فصل فيُتوهَّم أنَّه من تتمة الحديث المرفوع، ويُدْرك ذلكَ بورُوده مُنفصلاً في رِوَاية أُخرى، أو بالتَّنصيص على ذلك من الرَّاوي، أو بعض الأئمة المُطَّلعين، أو باستحالة كونه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك‏.‏

مثال ذلك ما رواهُ أبو داود‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن محمَّد النُّفيلي، حدَّثنا زُهَير، حدَّثنا الحسن بن الحُر، عن القاسم بن مُخَيْمِرة، قال‏:‏ أخذَ علقمة بيدي، فحدَّثني أنَّ عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخذَ بيد عبد الله بن مَسْعُود فعلَّمنا التَّشهد في الصَّلاة‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وفيه‏:‏ إذَا قُلتَ هذا، أو قضيتَ هذا، فقد قضيتَ صلاتكَ، إن شئتَ أن تَقُوم فَقُم، وإن شئتَ أن تَقْعُد فاقْعُد‏.‏

فقوله‏:‏ إذا قُلت، إلى آخره وصلهُ زُهَير بن مُعَاوية بالحديث المرفُوع في رِوَاية أبي داود هذه، وفيما رواه عنه أكثر الرُّواة‏.‏

قال الحاكم‏:‏ وذلك مُدْرج في الحديث من كلام ابن مَسْعود، وكذا قال البيهقي والخطيب‏.‏

وقال المُصنِّف في «الخُلاصة»‏:‏ اتَّفقَ الحُفَّاظ على أنَّها مُدْرجة، وقد رواه شَبَابة بن سَوَّار، عن زُهير ففصله، فقال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ إذا قُلت ذلك‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره، رواه الدَّارقُطْني وقال‏:‏ شَبَابة ثقة، وقد فصل آخر الحديث وجعله من قول ابن مَسْعود، وهو أصح من رِوَاية من أدرجه‏.‏ وقوله أشبه بالصَّواب، لأنَّ ابن ثوبان رواه عن الحسن كذلك، مع اتِّفَاق كُل من رَوَى التشهد عن عَلْقمة، وعن غيره عن ابن مَسْعُود، على ذلك‏.‏

وكذا ما أخرجهُ الشَّيخان من طريق ابن أبي عَرُوبة وجَرِير بن حازم، عن قَتَادة عن النَّضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هُرَيْرة‏:‏ «مَنْ أعْتقَ شِقْصًا‏.‏‏.‏‏.‏» وذكَرَا فيه الاسْتِسْعاء‏.‏

قال الدَّارقُطْني فيما انتقده على الشَّيخين‏:‏ وقد رواهُ شُعبة وهِشَام وهُمَا أثبت النَّاس في قَتَادة، فلم يذكُرَا فيه الاستسعاء، ووافقهما همَّام وفصلَ الاستسعاء من الحديث، وجعله من قول قتادة‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ وذلك أوْلَى بالصَّواب‏.‏

وكذا حديث ابن مَسْعود رفعهُ‏:‏ «من مَاتَ لا يُشْرك بالله شيئًا دخلَ الجَنَّة، ومن ماتَ يُشْرك بالله شيئًا دخلَ النَّار»‏.‏ ففي رِوَاية أُخرى‏:‏ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم كلمة، وقلتُ أنا أُخرى، فذكرهما‏.‏

فأفادَ ذلكَ أنَّ إحدى الكلمتين من قَولِ ابن مسعُود، ثمَّ وردت رِوَايةٌ ثَالثة أفَادت أنَّ الكلمة الَّتي هي من قوله هي الثَّانية، وأكدَّ ذلك رِوَاية رابعة اقتُصِرَ فيها على الكلمة الأولى مُضَافة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الصَّحيح عن أبي هُرَيْرة مرفُوعًا‏:‏ «للعَبْد المَمْلُوكِ أجْران»‏.‏ والَّذي نفسي بيده لَوْلا الجِهَاد في سبيل الله، والحج، وبر أمِّي، لأحببتُ أن أموتَ وأنا مَمْلُوك‏.‏

فقوله‏:‏ والَّذي نفسي بيده‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ من كلام أبي هُرَيْرة، لأنَّه يمتنع منه صلى الله عليه وسلم أن يتمنَّى الرِّق، ولأنَّ أمَّه لم تَكُن إذ ذاك موجُودة حتَّى يبرها‏.‏

تنبيه‏:‏

هذا القِسْم يُسمَّى مُدْرج المتن، ويُقابله مُدْرج الإسْنَاد، وكل منهما ثلاثة أنواع، اقتصرَ المُصَنِّف في الأوَّل على نوع واحد تبعًا لابن الصَّلاح، وأهمل نَوْعين، وأهملَ من الثَّاني نَوْعًا وهو عِنْد ابن الصَّلاح‏.‏

فأمَّا مُدْرج المتن، فتارة يَكُون في آخر الحديث كما ذكرهُ، وتارة في أوَّله، وتارة في وسطه، كما ذكرهُ الخَطِيب وغيره‏.‏

والغالب وقُوع الإدْراج آخر الخبر، ووقُوعه أوَّله أكثر من وسطه، لأنَّ الرَّاوي يقول كلامًا يُريد أن يَسْتدل عليه بالحديث، فيأتي به بلا فصل، فيُتوهَّم أن الكُل حديث‏.‏

مثاله‏:‏ ما رواه الخطيب من رواية أبي قَطَن وشَبَابة، فرَّقهما عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هُرَيْرة قال‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم «أسبغُوا الوضُوء، ويلٌ للأعْقَاب من النَّار»‏.‏

فقوله‏:‏ أسبغُوا الوضُوء، مُدْرج من قول أبي هُرَيْرة، كما بيَّن في رِوَاية البُخَاري عن آدم، عن شُعْبة، عن محمَّد بن زِيَاد، عن أبي هُرَيْرة قال‏:‏ أسبغُوا الوضُوء، فإنَّ أبا القَاسم صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ويلٌ للأعْقَابِ من النَّار»‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وهِمَ أبو قَطَن وشَبَابة في رِوَايتهما له عن شُعبة على ما سُقْناهُ، وقد رواهُ الجم الغَفِير عنه كرواية آدم‏.‏

ومِثَالُ المُدْرج في الوسط، والسَّبب فيه، إمَّا اسْتنباط الرَّاوي حُكمًا من الحديث قبل أن يتم فيُدْرجه، أو تفسير بعض الألفاظ الغريبة، ونحو ذلك‏.‏

فمن الأوَّل ما رواه الدَّارقُطْني في «السنن» من رِوَاية عبد الحميد بن جعفر، عن هِشَام بن عُروة، عن أبيه، عن بُسْرةَ بنت صَفْوان قالت‏:‏ سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من مسَّ ذكرهُ، أو أُنْثييه، أو رفغيه فليتوضَّأ»‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ كذا رواهُ عبد الحميد، عن هِشَام، ووهِمَ في ذِكْر الأُنثيين والرفغ، وإدْرَاجه لذلكَ في حديث بُسْرة، والمحفُوظ أنَّ ذلكَ قول عُروة، وكذا رواه الثِّقات عن هِشَام، منهم أيُّوب وحمَّاد بن زيد وغيرهما‏.‏

ثمَّ رواهُ من طريق أيُّوب بلفظ‏:‏ «من مَسَّ ذكرهُ فليتوضَّأ»‏.‏ قال‏:‏ وكان عُروة يَقُول‏:‏ إذا مَسَّ رفغيه، أو أُنثييه، أو ذكرهُ فليتوضَّأ، وكذا قال الخطيب‏.‏

فعروة لمَّا فهم من لفظ الخبر أنَّ سبب نَقْض الوضُوء مظنَّة الشَّهوة، جعل حُكم ما قَرُب من الذَّكر كذلك، فقال ذلك، فظنَّ بعض الرُّواة أنَّه من صُلْب الخبر، فنقلهُ مُدْرجًا فيه، وفهِمَ الآخرون حقيقة الحال ففصلوا‏.‏

ومن الثاني حديث عائشة في بَدْء الوحي‏:‏ كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتحنَّث في غَارِ حِرَاء وهو التَّعبد اللَّيالي ذَوَات العدد‏.‏

فقوله‏:‏ وهو التعبُّد، مُدْرج من قَوْل الزُّهْري‏.‏

وحديث فَضَالة‏:‏ «أنا زَعِيمٌ- والزَّعيم الحَمِيل- ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّة‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

فقوله‏:‏ والزَّعيم الحَميل مُدْرج من تفسير ابن وهب، وأمثلة ذلك كثيرة‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ والطَّريق إلى الحُكم بالإدراج في الأوَّل أو الأثناء صعب، لا سيمَا إن كان مُقدَّما على اللَّفظ المَرْوى، أو مَعْطُوفًا عليه بواو العطف‏.‏

والثَّاني‏:‏ أن يَكُون عندهُ مَتْنانِ بإسْنَادين فيرويهمَا بأحدهمَا‏.‏

والثَّاني‏:‏ أن يَكُون عندهُ مَتْنان مُختلفان بإسْنَادين مختلفين فيرويهما بأحدهما أو يروي أحدهما بإسناده الخاص به، ويزيد فيه من المَتْن الآخر ما ليسَ في الأوَّل، ومنهُ أن يَسْمع الحديث من شيخه، إلاَّ طرفًا منهُ، فإنَّه عندهُ بإسْنَاد آخر، فيرويه تامًّا بالإسْناد الأوَّل‏.‏

ومنهُ أن يَسْمع الحديث من شَيْخهِ، إلاَّ طَرَفًا منهُ، فيسمعهُ بواسطة عنه فيرويهُ تامًّا بحذفِ الواسطة‏.‏

وابن الصَّلاح ذكر هذين القِسْمين دُون ما ذكرهُ المُصنِّف، وكأنَّ المُصنِّف رأى دُخُولهما فيمَا ذكرهُ‏.‏

مثالُ ذلك حديث رواهُ سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزُّهْري، عن أنس أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تَبَاغضُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَدَابرُوا، ولا تَنَافَسُوا‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

فقوله‏:‏ ولا تنافَسُوا، مُدْرج، أدرجهُ ابن أبي مريم من حديث آخر لمالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكْذَب الحديث، ولا تَجَسَّسوا، ولا تنافَسُوا، ولا تحاسَدُوا»‏.‏

وكِلاَ الحديثين مُتَّفق عليه من طريق مالك، وليسَ في الأوَّل‏:‏ ولا تنافَسُوا، وهي في الثاني، وهكذا الحديثان عند رُواة الموطأ‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وهِمَ فيها ابن أبي مَرْيم، عن مالك عن ابن شِهَاب، وإنَّما يَرْويها مالك في حديثه عن أبي الزِّناد‏.‏

وروى أبو داود من رِوَاية زائدة وشَريك فرَّقهما، والنَّسائي من رواية سُفيان بن عُيَينة، كلهم عن عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر، في صِفَة صَلاةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيه‏:‏ ثمَّ جئتهم بعد ذلك في زمَانٍ فيه برد شديد، فرأيتُ النَّاس عليهم جل الثِّياب تحرك أيديهم تحت الثِّياب‏.‏

فقوله‏:‏ ثُمَّ جئتهم، إلى آخره ليسَ هو بهذا الإسْنَاد، وإنَّما أُدْرج عليه، وهو من رِوَاية عَاصم، عن عبد الجبَّار بن وائل، عن بعض أهْلهِ، عن وائل‏.‏

وهكذا رواهُ مُبينًا‏:‏ زُهَير بن مُعَاوية، وأبو بَدْر شُجَاع بن الوليد، فمَيَّزا قِصَّة تحريك الأيْدي وفَصَلاها من الحديث، وذكرا إسْنَادهما‏.‏

قال مُوسَى بن هارون الحَمَّال‏:‏ وهُمَا أثبت مِمَّن روى رَفْع الأيدي تحت الثِّياب عن عاصم، عن أبيه، عن وائل‏.‏

الثَّالث‏:‏ أن يَسْمع حَدِيثًا من جَمَاعة مُخْتلفين في إسْنَاده، أو مَتْنه، فيَرْويه عنهم باتِّفَاق‏.‏

الثَّالث أن يَسْمع حديثًا من جماعة مُختلفين في إسْنَاده، أو متنه، فيَرويه عنهم باتِّفاق ولا يُبين ما اختُلفَ فيه‏.‏

ولفظة المَتْن مزيدة هُنَا، كأنَّه أرادَ بها ما تقدَّم، من أن يَكُون المتن عندهُ بإسْناد، إلاَّ طرفًا منه، وقد تقدَّم مثاله‏.‏

ومثال اخْتلاف السَّند حديث التِّرمذي عن بُنْدار، عن ابن مَهْدي، عن سُفيان الثَّوري، عن واصل ومنصُور والأعْمَش، عن أبي وائل، عن عَمْرو بن شُرَحْبيل، عن عبد الله قال‏:‏ قلتُ يا رَسُول الله أي الذَّنب أعْظم‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فرِوَاية واصل هذه مُدْرجة على رِوَاية منصُور والأعْمش، لأنَّ واصلاً لا يَذْكُر فيه عَمْرًا، بل يجعلهُ عن أبي وائل، عن عبد الله، هكذا رواهُ شُعبة ومهدي بن ميمُون ومالك بن مِغْوَل وسعيد بن مَسْرُوق، عن واصل، كما ذكرهُ الخطيب‏.‏

وقد بَيَّن الإسْنادين معًا يحيى بن سعيد القَطَّان في رِوَايته عن سُفيان، وفصلَ أحدهما من الآخر، رواهُ البُخَاري في «صحيحه» عن عَمرو بن علي، عن يَحْيى، عن سُفيان، عن منصُور والأعْمَش، كلامهما عن أبي وائل، عن عَمرو، عن عبد الله‏.‏ وعن سُفيان عن واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله من غير ذكر عَمرو‏.‏

قال عَمرو بن علي‏:‏ فذكرتهُ لعبد الرَّحمن، وكان حدَّثنا عن سُفيان، عن الأعمش ومنصُور وواصل، عن أبي وائل، عن عَمْرو، فقال‏:‏ دعهُ‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ لكن رواه النَّسائي، عن بُنْدار، عن ابن مهدي، عن سُفيان، عن واصل وحدهُ، عن أبي وائل، عن عَمرو، فزاد في السَّند عَمْرًا من غير ذكر أحد، وكأنَّ ابن مَهْدي لمَّا حَدَّث به عن سُفيان عن منصور والأعمش وواصل بإسْناد واحد، ظنَّ الرُّواة عن ابن مَهْدي اتِّفاق طُرقهم، فاقتصر على أحد شُيوخ سُفيان‏.‏

وكلُّهُ حرامٌ، وصَنَّف فيه الخَطيبُ كِتَابًا شَفَى وكَفَى‏.‏

وكلُّه أي‏:‏ الإدراج بأقسامه حرام بإجماع أهل الحديث والفقه، وعبارة ابن السَّمعاني وغيره‏:‏ من تعمَّد الإدْراج، فهو ساقط العَدَالة، ومِمَّن يُحرِّف الكَلِم عن مواضعه، وهو مُلحق بالكذَّابين‏.‏

وعندي‏:‏ أنَّ ما أُدْرج لتفسير غريب لا يمنع، ولذلك فَعَلهُ الزُّهْري وغير واحد من الأئمة‏.‏

وصنَّف فيه أي‏:‏ نوع المُدْرج الخطيب كِتَابًا سمَّاه «الفَصْل للوَصْل المُدْرج في النَّقل» شفى وكفى على ما فيه من إعْوَاز‏.‏

وقد لخَّصه شيخُ الإسْلام وزاد عليه قدرهُ مرَّتين أو أكثر في كِتَاب سمَّاه «تقريب المَنْهج بترتيب المُدْرج»‏.‏

النَّوع الحَادي والعِشْرُون‏:‏ المَوْضُوع

هو المُخْتلق المَصْنُوع، وشَرُّ الضَّعيف، وتَحْرُم رِوَايته مع العِلْم به في أي معنى كان، إلاَّ مُبيَّنًا، ويُعْرف الوضعُ بإقْرَار واضعه‏.‏

النَّوع الحادي والعِشْرون‏:‏ الموضُوع‏.‏

هو الكذب المُختلق المصنوع، و هو شر الضَّعيف وأقبحهُ وتحرُم روايته مع العِلْم به أي‏:‏ بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام، والقَصَص، والتَّرغيب وغيرها إلاَّ مُبينًا أي‏:‏ مقرونًا ببيان وضعه، لحديث مسلم‏:‏ «من حَدَّثَ عنِّي بحديثٍ يَرَى أنَّه كَذِبٌ فهو أحدُ الكَاذبين»‏.‏

ويُعرف الوضع للحديث بإقْرَار واضعه أنَّه وضَعَهُ كحديث فَضَائل القُرآن الآتي، اعترفَ بوضعه مَيْسرة‏.‏

وقال البُخَاري في «التاريخ الأوسط»‏:‏ حدَّثني يحيى اليَشْكُري، عن علي بن جرير قال‏:‏ سمعتُ عُمر بن صُبْح يقول‏:‏ أنَا وضعتُ خُطْبة النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد استشكلَ ابن دقيق العِيد الحكم بالوَضْعِ بإقْرَار من ادَّعى وضعهُ، لأنَّ فيه عَمَلاً بقوله بعد اعْترافهِ على نَفْسه بالوَضْع‏.‏

قال‏:‏ وهذا كاف في ردِّهِ، لكن ليسَ بقاطع في كَوْنهِ موضوعًا لجِوَاز أن يكذب في هذا الإقْرار بِعَينه‏.‏

قيل‏:‏ وهذا ليسَ باستشكال منه، إنَّما هو توضيح وبيان، وهو أنَّ الحكم بالوضع بالإقرار، ليس بأمر قطعي موافق لما في نفس الأمر، لجَوَاز كذبه في الإقرار، على حد ما تقدَّم أنَّ المُرَاد بالصحيح والضَّعيف، ما هو الظَّاهر، لا ما في نفس الأمر، ونَحَا البَلْقيني في «محاسن الاصطلاح» قريبًا من ذلك‏.‏

أو مَعَنى إقْرَاره، أو قَرِينةٍ في الرَّاوي، أو المَرْوي، فقد وُضِعَتْ أحَاديث يَشْهدُ بوضعها رَكَاكة لفظها ومَعَانيها‏.‏

أو معنى إقْراره عِبَارة ابن الصَّلاح، وما يَتنزَّل مَنْزلة إقْراره‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ كأن يُحدِّث بحديث عن شَيْخٍ، ويسأل عن مولده، فيذكُر تاريخًا يعلمُ وفَاة ذلك الشَّيخ قبلهُ، ولا يُعرف ذلك الحديث إلاَّ عندهُ، فهذا لم يعترف بوضعه، ولكن اعْترافه بوقتِ مَوْلده يتنزَّل مَنْزلة إقْرَاره بالوضع، لأنَّ ذلك الحديث لا يُعرف إلاَّ عن ذلك الشَّيخ، ولا يعرف إلاَّ برواية هذا عنه‏.‏

وكذا مثَّل الزَّركشي في مُخْتصره‏.‏

أو قرينة في الرَّاوي، أو المَرْوي، فقد وضعت أحاديث طويلة يَشْهد بوضْعها رَكَاكة لفْظْها ومَعَانيها‏.‏

قال الرَّبيع بن خُثَيم‏:‏ إنَّ للحديث ضَوْءٌ كضوء النهَّار تعرفه، وظُلْمة كَظُلْمة اللَّيل تُنْكره‏.‏

وقال ابن الجَوْزي‏:‏ الحديث المُنْكر يَقْشعر لهُ جلد الطَّالب للعلم، وينفرُ منهُ قلبه في الغالب‏.‏

وقال البَلْقيني‏:‏ وشاهد هذا أنَّ إنْسَانًا لو خدمَ إنسانًا سنينَ، وعرف ما يُحب وما يكره، فادَّعى إنسان أنَّه كان يكره شيئا، يعلم ذلك أنَّه يُحبه، فبمجرد سَمَاعه يُبادر إلى تَكْذيبه‏.‏

وقال شيخُ الإسلام‏:‏ المَدَار في الرِّكة على رِكَة المعنى، فحيثُما وُجِدتْ دلَّ على الوضع، وإن لم ينضم إليه ركة اللفظ، لأنَّ هذا الدِّين كله محاسن، والرِّكة ترجع إلى الرَّداءة‏.‏

وقال‏:‏ أمَّا رَكَاكة اللَّفظ فقط، فلا تدل على ذلك، لاحتمال أن يَكُون رواهُ بالمعنى، فغيَّر ألفاظهُ بغير فصحيح، ثمَّ إن صرَّح بأنَّه من لَفْظ النَّبي صلى الله عليه وسلم فكاذب‏.‏

قال‏:‏ ومِمَّا يدخل في قرينة حال المَرْوي ما نُقل عن الخَطِيب، عن أبي بكر بن الطَّيب‏:‏ أنَّ من جُمْلة دلائل الوَضْع أن يَكُون مُخَالفًا للعقل، بحيث لا يقبل التأويل، ويلتحق به ما يدفعهُ الحس والمُشَاهدة، أو يَكُون مُنَافيًا لدلالة الكتاب القَطْعية، أو السُّنة المُتواترة، أو الإجماع القَطْعي، أمَّا المُعَارضة مع إمْكَان الجَمْع فلا‏.‏

ومنها‏:‏ ما يُصرِّح بتكذيب رُواة جَمْع المُتواتر، أو يَكُون خبرًا عن أمر جَسِيم تتوفَّر الدَّواعي على نَقْله بمحضر الجمع، ثمَّ لا ينقله منهم إلاَّ واحد‏.‏

ومنها‏:‏ الإفْراط بالوَعيد الشَّديد على الأمر الصَّغير، أو الوعد العظيم على الفِعْل الحَقِير، وهذا كثير في حديث القُصَّاص، والأخير راجعٌ إلى الرِّكة‏.‏

قلتُ‏:‏ ومن القَرَائن كَوْن الرَّاوي رَافضيًا، والحديث في فضائل أهل البيت‏.‏

وقد أشارَ إلى غالب ما تقدَّم الزَّركشي في «مختصره» فقال‏:‏ ويُعرف بإقرار واضعه، أو من حال الرَّاوي، كقوله‏:‏ سمعتُ فُلانًا يَقُول، وعلمنا وفاة المَرْوي عنه قبل وجُوده، أو من حال المَرْوي، لرَكَاكة ألْفَاظه، حيث تَمْتنع الرِّواية بالمعنى، ومُخالفته القاطع، ولم يقبل التأويل، أو لتضمنه لما تتوفر الدَّواعي على نقله، أو لِكَونهِ أصلاً في الدِّين ولم يتواتر، كالنَّص الَّذي تزعم الرَّافضة أنَّه دلَّ على إمامة علي، وهل تثبت بالبينة على أنَّه وضعه، يُشبه أن يَكُون فيه التردُّد في أنَّ شهادة الزُّور هل تثبت بالبَيِّنة، مع القَطْع بأنَّه لا يعمل به‏.‏ انتهى‏.‏

وفي «جمع الجوامع» لابن السُّبْكي أخذًا من «المحصُول» وغيره‏:‏ كل خبر أوهم باطلاً، ولم يَقْبل التأويل فمكذُوب، أو نقص منه ما يزيل الوهم، ومن المقطوع بكذبه، ما نُقب عنه من الأخْبَار ولم يُوجد عند أهلهِ من صُدور الرُّواة، وبُطُون الكُتب، وكذا قال صاحب «المعتمد»‏.‏

قال العِزُّ بن جماعة‏:‏ وهذا قد يُنازع في إفضائه إلى القطع، وإنَّما غايتهُ غلبة الظَّن‏.‏

ولهذا قال العِرَاقيُّ‏:‏ يُشْترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان، ولا راو، إلاَّ وكُشِفَ أمره في جميع أقْطَار الأرض، وهو عسر أو متعذَّر‏.‏

وقد ذكر أبو حازم في مجلس سُليمان بن عبد الملك حديثًا بحضرة الزُّهْري، فقال الزُّهْري‏:‏ لا أعرف هذا الحديث‏.‏ فقال‏:‏ أحفظتَ حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فنصفه‏؟‏ قال‏:‏ أرجُو‏.‏ قال‏:‏ اجعل هذا من النصف الآخر‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الجَوْزي‏:‏ ما أحسن قول القائل‏:‏ إذا رأيت الحديث يُباين المعقُول، أو يُخَالف المنقُول، أو يُنَاقض الأصُول، فاعْلم أنَّه موضوعٌ‏.‏

قال‏:‏ ومعنى مُنَاقضته للأصُول أن يَكُون خارجًا عن دَوَاوين الإسْلام من المَسَانيد والكُتب المشهُورة‏.‏

ومن أمْثلةِ ما دلَّ على وضعهِ قرينة في الرَّاوي، ما أسندهُ الحاكم، عن سيف بن عُمر التَّميمي، قال‏:‏ كنتُ عند سَعْد بن طريف، فجَاء ابنهُ من الكُتَّاب يبكي، فقال‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ ضربني المُعلِّم‏.‏ قال‏:‏ لأُخزينهم اليوم، حدَّثني عكرمة، عن ابن عبَّاس مرفوعًا‏:‏ «معلمُوا صِبْيانكم شِرَاركُم، أقلهُم رحمة لليتيم، وأغْلظهُم على المِسْكين»‏.‏

وقيل لمأمون بن أحمد الهَرَوي‏:‏ ألا تَرَى إلى الشَّافعي ومن تبعهُ بخُرَاسان، فقال‏:‏ حدَّثنا أحمد بن عبد الله، حدَّثنا عُبيد الله بن معدان الأزدي، عن أنس مرفوعًا‏:‏ «يَكُون في أمَّتي رجُل يقال له محمَّد بن إدريس، أضَر على أمَّتي من إبليس، ويَكُون في أمَّتي رجُل يقال له أبو حنيفة، هو سِرَاج أمَّتي»‏.‏

وقيل لمُحمَّد بن عُكَاشة الكِرْماني‏:‏ إنَّ قومًا يرفعُون أيديهم في الرُّكوع وفي الرَّفع، منه، فقال‏:‏ حدَّثنا المُسيب بن واضح، حدَّثنا ابن المُبَارك، عن يُونس بن يزيد، عن الزُّهْري، عن أنس مرفوعًا‏:‏ «من رفعَ يديه في الرُّكوع فلا صَلاةَ لهُ»‏.‏

ومن المُخَالف للعقل ما رواه ابن الجَوْزي من طريق عبد الرَّحمن بن زيد بن أسْلم، عن أبيه، عن جدِّه مرفوعًا‏:‏ أنَّ سفينة نوح طافت بالبيت سبعًا، وصلَّت عند المُقَام ركعتين‏.‏

وأسند من طريق محمَّد بن شُجَاع البَلْخي، عن حسَّان بن هِلال، عن حمَّاد بن سَلَمة، عن أبي المُهزم، عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا‏:‏ إنَّ الله خلق الفرس فأجراهَا فعرقت، فخلق نفسه منها‏.‏

هذا لا يضعهُ مُسْلم، بل ولا عاقل، والمتَّهم به محمَّد بن شُجَاع، كان زائغًا في دينه، وفيه أبو المُهزم، قال شُعبة‏:‏ رأيتهُ ولو أُعطي دِرْهمًا وضع خمسين حديثًا‏.‏

وقد أكثرَ جامع المَوْضُوعات في نحو مُجَلدين، أعني أبا الفَرَج بن الجَوْزي، فذكر كثيرًا مِمَّا لا دليل على وضعهِ، بل هو ضعيفٌ‏.‏

وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلدين، أعنى أبا الفرج بن الجوزي فذكر في كتابه كثيرًا ممَّا لا دليل على وضعه، بل هو ضعيف بل وفيه الحسن والصَّحيح، وأغرب من ذلك أنَّ فيها حديثا من «صحيح» مُسلم كما سأُبينه‏.‏

قال الذَّهبي‏:‏ ربما ذكر ابن الجوزي في «الموضُوعات» أحاديث حِسَانًا قوية‏.‏

قال‏:‏ ونقلتُ من خطِّ السَّيد أحمد بن أبي المَجْد قال‏:‏ صنَّف ابن الجَوْزي كتاب «الموضُوعات» فأصاب في ذكره أحاديث شَنيعة مُخَالفة للنَّقل والعقل، وما لم يُصب فيه إطْلاقهِ الوَضْع على أحاديث بكلام بعض النَّاس في أحد رُواتها، كقوله‏:‏ فلانٌ ضعيف، أو ليس بالقوي، أو لين، وليس ذلك الحديث مِمَّا يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مُخَالفة، ولا مُعَارضة لكتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا حُجَّة بأنَّه موضوع سوى كلام ذلك الرَّجل في راويه، وهذا عُدوان ومُجَازفة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال شيخُ الإسْلام‏:‏ غالب ما في كِتَاب ابن الجوزي موضوع، والذي يُنتقد عليه بالنسبة إلى ما لا يُنتقد قليل جدًّا‏.‏

قال‏:‏ وفيه من الضَّرر أن يظن ما ليس بموضوع موضُوعًا، عكس الضَّرر «بمستدرك» الحاكم، فإنَّه يظن ما ليسَ بصحيح صحيحًا‏.‏

قال‏:‏ ويتعيَّن الاعتناء بانتقاد الكِتَابين، فإنَّ الكلام في تساهلهما عدم الانتفاع بهمَا، إلاَّ لعالم بالفنِّ، لأنَّه ما من حديث إلاَّ ويمكن أن يَكُون قد وقع فيه تساهل‏.‏

قلتُ‏:‏ قد اختصرتُ هذا الكِتَاب فعلقتُ أسانيدهُ وذكرتُ منها موضع الحاجة، وأتيتُ بالمُتون، وكلام ابن الجوزي عليها، وتعقَّبتُ كثيرًا منها، وتتبعتُ كلام الحُفَّاظ في تلك الأحاديث، خُصوصًا شيخ الإسلام في تصانيفه وأماليه، ثمَّ أفردتُ الأحاديث المتعقبة في تأليف، وذلك أنَّ شيخ الإسلام ألَّف «القول المُسدَّد في الذَّب عن المُسند» أورد فيه أربعة وعشرين حديثًا في «المسند» وهي في «الموضُوعات» وانتقدها حديثًا حديثًا‏.‏

ومنها حديث في «صحيح» مسلم، وهو ما رواه من طريق أبي عامر العَقَدي، عن أفلح بن سعيد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هُرَيْرة قال‏:‏ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ طَالتْ بكَ مُدَّة أوْشكتَ أن تَرَى قومًا يغدُونَ في سَخطِ الله، ويروحُونَ في لَعْنتهِ، في أيديهم مثلُ أذْنَاب البَقَر»‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ لم أقف في كتاب «الموضُوعات» على شيء حُكِمَ عليه بالوضع، وهو في أحد «الصَّحيحين» غير هذا الحديث، وإنَّها لَغَفْلة شديدة، ثمَّ تكلَّم عليه وعلى شواهده‏.‏

وذيلتُ على هذا الكتاب بذيل في الأحاديث الَّتي بقيت في الموضُوعات من المُسْند، وهي أربعة عشر مع الكلام عليها، ثمَّ ألفتُ ذيلاً لهذين الكتابين سميتهُ «القولُ الحسن في الذَّب عن السُّنن» أوردتُ في مئة وبِضْعة وعِشْرين حديثًا ليست بموضُوعة‏.‏

منها‏:‏ ما هو في «سُنن» أبي داود، وهي أربعة أحاديث‏:‏

منها‏:‏ حديث صلاة التَّسبيح‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو في «جامع» التِّرمذي، وهو ثلاثة وعشرون حديثا‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو في «سنن» النَّسائي وهو حديث واحد‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو في ابن ماجه، وهو ستة عشر حديثًا‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو في «صحيح» البُخَاري رواية حمَّاد بن شاكر، وهو حديث ابن عمر‏:‏ «كيفَ يا ابن عُمر إذَا عَمَّرت بينَ قَوْم يُخبؤون رِزْق سَنتهم»‏.‏

هذا الحديث أوردهُ الدَّيلمي في «مسند الفِرْدوس» وعزاهُ للبُخَاري، وذكر سنده إلى ابن عُمر، ورأيتُ بخطِّ العِرَاقي أنَّه ليسَ في الرِّواية المشهورة، وأنَّ المِزِّي ذكر أنَّه في رواية حمَّاد بن شاكر، فهذا حديث ثان من أحاديث «الصَّحيحين»‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو في تأليف البُخَاري غير الصَّحيح، «كخلق أفعال العباد» أو تعاليقهُ في الصَّحيح‏.‏

أو في مُؤلف أُطلق عليه اسم الصَّحيح، «كمُسند» الدَّارمي و«المُستدرك» و«صحيح» ابن حبَّان‏.‏

أو في مُؤلف مُعتبر، كتصانيف البيهقي، فقد التزم أن لا يُخرج فيها حديثًا يعلمهُ موضوعًا‏.‏

ومنها‏:‏ ما ليس في أحد هذه الكتب‏.‏

وقد حررتُ الكلام على ذلك حديثًا حديثًا، فجَاء كِتَابًا حافلاً، وقلتُ في آخره نظمًا‏:‏

كتاب الأبَاطيل للمُرتضى *** أبي الفرج الحافظ المُقْتدي

تضمَّن ما ليسَ من شَرْطه لذي البصر الناقد المُهتدي

ففيه حديث روى مسلم *** وفوقَ الثَّلاثين عن أحمدِ

وفردٌ رواه البُخَاري في *** رواية حمَّاد المُسندِ

وعند سُليمان قل أربع *** وبضع وعشرون في التِّرمذي

وللنَّسائي واحد وابن ما جه ست عشرة إن تعددِ

وعند البُخَاري لا في الصَّحيح *** وللدارمي الحبر في المُسندِ

وعند ابن حبَّان والحاكم الإ *** مام وتلميذه الجهبذي

وتعليق إسنادهم أربعون *** وخذ مثلها واستفد وانْقُدِ

وقد بان ذلك مجموعه *** وأوضحته لك كي تهتدي

وثمَّ بقايا لمستدرك *** فما جمع العلم في مفردِ

والوَاضعونَ أقْسامٌ، أعظمهُم ضررًا قومٌ يُنسبون إلى الزُّهد، وضَعُوهُ حِسْبة في زَعْمهم، فقُبلت موضُوعَاتهم ثِقةً بهم‏.‏

والواضعون أقْسَام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع أعظمهم ضَررًا قومٌ يُنسبون إلى الزُّهد وضعوهُ حِسْبة أي‏:‏ احتسابًا للأجر عند الله في زَعْمهم الفاسد فقُبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونًا إليهم، لِمَا نُسبُوا إليه من الزُّهد والصَّلاح‏.‏

ولهذا قال يحيى القَطَّان‏:‏ ما رأيتُ الكذب في أحد أكثرَ منه فيمن يُنسب إلى الخير‏.‏ أي‏:‏ لعدم علمهم بتفرقة ما يجُوز لهم وما يمتنع عليهم، أو لأنَّ عندهم حُسن ظن وسلامة صدر، فيحملون ما سمعُوهُ على الصِّدق، ولا يهتدُون لتمييز الخَطَأ من الصَّواب، لكن الواضعُونَ منهم، وإن خفي حالهم على كثير من النَّاس، فإنَّه لم يخف على جهابذة الحديث ونُقَّاده‏.‏

وقد قيل لابن المُبَارك‏:‏ هذه الأحاديث الموضُوعة‏؟‏ فقال‏:‏ يعيش لهَا الجَهَابذة ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ومن أمثلة ما وُضع حِسْبة ما رواهُ الحاكم بِسَنده إلى أبي عَمَّار المَرْزوي، أنَّه قيلَ لأبي عِصْمة نُوح بن أبي مَرْيم‏:‏ من أينَ لكَ‏:‏ عن عِكْرمة، عن ابن عبَّاس في فضائل القرآن سُورة سُورة، وليسَ عندَ أصحاب عِكْرمة هذا‏؟‏ فقال‏:‏ إنِّي رأيتُ النَّاس قد أعرضُوا عن القُرآن واشتغلُوا بفقه أبي حنيفة ومَغَازي ابن إسْحَاق، فوضعتُ هذا الحديث حِسْبة‏.‏

وكان يُقَال لأبي عِصْمة هذا‏:‏ نُوحٌ الجَامع، قال ابن حبَّان‏:‏ جمعَ كل شيء إلاَّ الصِّدق‏.‏

وروى ابن حبَّان في «الضعفاء» عن ابن مهدي قال‏:‏ قلتُ لميسرة بن عبد ربِّه‏:‏ من أين جئت بهذه الأحاديث‏:‏ من قرأ كذا فله كذا‏؟‏ قال وضعتها أُرغِّبُ النَّاس فيها‏.‏ وكان غُلامًا جليلاً يتزهَّد، ويَهْجُر شهوات الدُّنيا، وغُلِّقت أسواقُ بغداد لموته، ومع ذلك كان يضع الحديث، وقيل له عند موته‏:‏ حسن ظنَّك‏؟‏ قال‏:‏ كيف لا، وقد وضعتُ في فَضْلِ عليِّ سبعينَ حديثًا‏.‏

وكان أبو داود النَّخعي أطْول النَّاس قيامًا بليل، وأكثرهم صيامًا بنهار، وكان يضع‏.‏

قال ابن حبَّان‏:‏ وكان أبو بِشْر أحمد بن مُحمَّد الفقيه المَرْزوي من أصلب أهل زَمَانه في السُّنة وأذَّبهم عنهَا، وأقْمعهُم لمن خالفهَا، وكان يضع الحديث‏.‏

وقال ابن عَدي‏:‏ كان وهب بن حفص من الصَّالحين مَكثَ عِشْرينَ سنةً لا يُكلِّمُ أحدًا، وكان يكذب كذبًا فاحشًا‏.‏

وجوَّزت الكَرَامية الوضع في التَّرغيب والتَّرهيب‏.‏

وجوَّزت الكرامية وهم قومٌ من المُبتدعة، نُسِبُوا إلى محمَّد بن كَرَّام السِّجستاني المُتكلِّم- بتشديد الرَّاء في الأشهر – الوضع في التَّرغيب والتَّرهيب دون ما يتعلَّق به حُكم من الثَّواب والعِقَاب، ترغيبًا للنَّاس في الطَّاعة، وترهيبًا لهم عن المعصية‏.‏

واستدلُّوا بما رُوي في بعض طُرق الحديث‏:‏ «من كَذبَ عليَّ متعمدًا ليضل به النَّاس‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وحمل بعضهم حديث‏:‏ «من كذبَ عليَّ‏.‏‏.‏‏.‏» أي‏:‏ قال إنَّه شاعر أو مجنون‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنَّما نكذبُ له لا عليه‏.‏

وقال محمَّد بن سعيد المَصْلُوب الكذَّاب الوضَّاع‏:‏ لا بأس إذَا كان كلام حسن أن يضعَ لهُ إسنادًا‏.‏

وقال بعض أهل الرَّأي فيما حكاهُ القُرْطبي‏:‏ ما وافقَ القِيَاس الجلي جازَ أن يُعزى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهو خِلافُ إجْمَاع المُسْلمين الَّذين يُعتدُّ بهم، ووضَعت الزَّنادقة جُملاً، فبيَّن جَهابذة الحديث أمرَهَا، ولله الحمدُ‏.‏

قال المُصنَّف زيادة على ابن الصَّلاح‏:‏ وهو وما أشبه خلاف إجماع المُسلمين، الذين يعتد بهم بل بالغ الشَّيخ أبو محمَّد الجُويني فجزم بتكفير واضع الحديث‏.‏

ووضعت الزَّنادقة جُملا من الأحاديث يُفسدون بها الدِّين فبيَّن جَهابذة الحديث أي‏:‏ نُقَّاده بفتح الجيم، جمع جهبذ بالكسر، وآخره معجمة أمرها ولله الحمد‏.‏

روى العُقيلي بسندهِ إلى حمَّاد بن زيد قال‏:‏ وضَعَت الزَّنادقة على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث‏.‏

منهم‏:‏ عبد الكريم بن أبي العَوْجَاء الَّذي قُتلَ وصُلب في زمن المَهْدي، قال ابن عَدِي‏:‏ لمَّا أُخذ ليُضْرب عُنقه قال‏:‏ وضعتُ فيكُم أربعة آلاف حديث، أحرِّم فيها الحلال، وأحلِّل الحرام‏.‏

وكبيان بن سمعان النَّهدي الَّذي قتلهُ خالد القَسْري وأحرقهُ بالنَّار‏.‏

قال الحاكم‏:‏ وكمحمَّد بن سعيد الشَّامي، المَصْلُوب في الزَّندقة، فروى عن حميد، عن أنس مرفوعًا‏:‏ أنَا خاتم النَّبيين لا نبي بعدي إلاَّ أن يشاء الله‏.‏ وضع هذا الاستثناء لمَا كانَ يدعُو إليه من الإلحاد والزَّندقة، والدَّعوة إلى التنبي‏.‏

وهذا القسم مُقابل القسم الأوَّل من أقسام الوضَّاعين، زادهُ المُصنِّف على ابن الصَّلاح‏.‏

ومنهم قسمٌ يضعُون انتصارًا لمَذْهبهم، كالخطَّابية، والرَّافضة، وقومٌ من السَّالمية‏.‏

روى ابن حبان في «الضعفاء» بسنده إلى عبد الله بن يزيد المُقرئ‏:‏ أنَّ رجلا من أهل البِدَع رجع عن بدعته، فجعل يقول‏:‏ انظرُوا هذا الحديث عمَّن تأخذونهُ، فإنَّا كُنَّا إذا رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا‏.‏

ورَوَى الخطيب بسندهِ عن حمَّاد بن سلمة قال‏:‏ أخْبَرني شيخٌ من الرَّافضة أنَّهم كانوا يَجْتمعُون على وضْعِ الأحاديث‏.‏

وقال الحاكم‏:‏ كان مُحمَّد بن القاسم الطايكاني من رؤوس المُرجئة، وكان يضع الحديث على مَذْهبهم‏.‏

ثمَّ روى بسندهِ عن المَحَاملي قال‏:‏ سمعتُ أبا العَيْنَاء يقول‏:‏ أنا والجاحظ وضعنَا حديث فَدَك، وأدخلناهُ على الشيوخ ببغداد فقبلُوه إلاَّ ابن أبي شيبة العلوي، فإنَّه قال‏:‏ لا يُشبهُ آخر هذا الحديث أوَّله، وأبى أن يقبلهُ‏.‏

وقِسْمٌ تقرَّبوا لبعض الخُلفاء والأُمراء بوضع ما يُوافق فِعْلهم وآراءهم، كغِيَاث بن إبراهيم، حيثُ وضع للمهدي في حديث‏:‏ «لا سَبْق إلاَّ في نَصْلٍ أو خُفِّ أو حَافرٍ»‏.‏ فزادَ فيه‏:‏ أو جناح‏.‏ وكان المهدي إذ ذاكَ يلعبُ بالحَمَام، فتركهَا بعد ذلك وأمر بذبحها وقال‏:‏ أنَا حملتهُ على ذلكَ، وذكرَ أنَّه لمَّا قام قال‏:‏ أشهدُ أن قفاكَ قفا كذاب‏.‏ أسندهُ الحاكم‏.‏

وأسند عن هارون بن أبي عُبيد الله، عن أبيه قال‏:‏ قال المَهْدي ألاَّ ترى ما يَقُول لي مُقَاتل‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتَ وضعت لكَ أحاديث في العبَّاس‏؟‏ قلتُ‏:‏ لا حَاجة لي فيها‏.‏

وضربٌ كانُوا يتكسَّبُون بذلكَ ويرتزقُون به في قصصهم، كأبي سعيد المَدَائني‏.‏

وضربٌ امتُحنُوا بأولادهم، أو ربائب، أو ورَّاقين، فوضعوا لهم أحاديث، ودَسُّوها عليهم، فحدَّثُوا بها من غير أن يَشْعرُوا، كعبد الله بن محمَّد بن ربيعة القدامي، وكحمَّاد بن سلمة ابْتُلى بربيبه ابن أبي العَوْجَاء فكان يَدُس في كُتبه، وكمَعْمر، كان له ابن أخ رافضي، فدسَّ في كُتبه حديثًا عن الزُّهْري، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ نَظَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى علي فقال‏:‏ أنتَ سيِّدٌ في الدُّنيا سيِّدٌ في الآخرة، ومن أحبَّكَ فقد أحبَّني، وحبيبي حبيبُ الله، وعدوكَ عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضكَ بعدي‏.‏ فحدَّث به عبد الرزاق، عن مَعْمر، وهو باطل موضوع كما قالهُ ابن معين‏.‏

وضربٌ يلجأون إلى إقامة دليل على ما أفتُوا به بآرائهم، فيضعون، وقيل‏:‏ إنَّ الحافظ أبا الخطَّاب بن دحية كان يفعل ذلك، وكأنَّه الَّذي وضع الحديث في قصر المغرب‏.‏

وضربٌ يَقْلبونَ سند الحديث ليُسْتغرب، فيُرغب في سماعه منهم، كابن أبي حيَّة، وحَمَّاد النَّصيبي، والبهلُول بن عُبيد، وأصْرم بن حوشب‏.‏

وضربٌ دعتهم حاجة إليه فوضعُوه في الوقت كما تقدَّم عن سعد بن طريف، ومحمَّد بن عُكاشة، ومأمون الهروي‏.‏

فائدة‏:‏

قال النَّسائي‏:‏ الكذَّابون المعروفُون بوضع الأحاديث أربعة‏:‏ ابن أبي يَحْيى بالمدينة، والوَاقدي ببغداد، ومُقاتل بخُراسان، ومحمَّد بن سعيد المصلوب بالشَّام‏.‏

وربَّما أسْندَ الواضعُ كلامًا لنفسهِ، أو لبعضِ الحُكَماء، ورُبَّما وقعَ في شِبْهِ الوَضْعِ بغيرِ قَصْدٍ‏.‏

وربَّما أسندَ الواضع كلامًا لنفسه كأكثر الموضُوعات أو لبعض الحُكماء أو الزهَّاد، أو الإسْرائيليات، كحديث‏:‏ المَعدة بيتُ الدَّاء، والحِمْية رأس الدَّواء‏.‏ لا أصل لهُ من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كلام بعض الأطباء، قيل‏:‏ إنَّهُ الحارث بن كِلْدة طبيب العرب‏.‏

ومثَّله العِرَاقي في «شَرْح الألفية» بحديث‏:‏ «حبُّ الدِّنيا رأسُ كل خطيئة»‏.‏ قال‏:‏ فإنَّه إمَّا من كلام مالك بن دينار، كما رواهُ ابن أبي الدُّنيا في «مكايد الشَّيطان» بإسْنَاده إليه، أو من كلام عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، كما رواه البيهقي في «الزُّهد» ولا أصل له من حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، إلاَّ من مراسيل الحسن البصري، كما رواه البيهقي في «شُعب الإيمان»، ومراسيل الحسن عندهم شِبْه الرِّيح‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ إسْنَادهُ إلى الحسن حسن، ومراسيله أثْنَى عليها أبو زرعة وابن المديني، فلا دليل على وضعه‏.‏ انتهى‏.‏

والأمر كما قال‏.‏

وربَّما وقع الرَّاوي في شبه الوَضْع غلطًا منهُ بغير قَصْدٍ، فليس بموضوع حقيقة، بل هو بقسم المُدرج أولى، كما ذكرهُ شيخ الإسلام في «شرح النُّخبة» قال‏:‏ بأن يَسُوق الإسْناد، فيعرض له عارض فيقول كلامًا من عِنْد نفسه، فيظن بعض من سمعهُ أنَّ ذلكَ متن ذلك الإسْنَاد، فيرويه عنه كذلك‏.‏

كحديث رواه ابن ماجه عن إسْماعيل بن محمد الطَّلحي، عن ثابت بن مُوسى الزَّاهد، عن شَريك، عن الأعْمش، عن أبي سُفيان، عن جابر مرفُوعًا‏:‏ «مَنْ كَثُرت صَلاتهُ باللَّيلِ، حَسُن وجههُ بالنهَّارِ»‏.‏

قال الحاكم‏:‏ دخلَ ثابت على شَريك وهو يُمْلي ويقول‏:‏ حدَّثنا الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر قال‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وسكت ليكتب المُسْتملي، فلمَّا نظرَ إلى ثابت قال‏:‏ من كَثُرت صلاتهُ باللَّيل، حسنُ وجههُ بالنهَّار، وقَصَدَ بذلك ثابتًا لزُهدهِ وورعه، فظنَّ ثابت أنَّه متن ذلكَ الإسناد، فكان يحدِّث به‏.‏

وقال ابن حبَّان‏:‏ إنَّما هو قول شَريك، فإنَّه قاله عقب حديث الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر‏:‏ «يَعقد الشَّيطان على قَافيةِ رأسِ أحدكُم»‏.‏ فأدرجهُ ثابت في الخبر، ثمَّ سرقهُ منهُ جماعة من الضُّعفاء وحدَّثوا به عن شَريك، كعبد الحميد بن بجر، وعبد الله بن شبرمة، وإسحاق بن بِشْر الكاهلي وجَمَاعة آخرين‏.‏

ومن الموضُوع الحديث المَرْوي عن أُبيِّ بن كَعْب في فَضْلِ القرآن سُورة سُورة، وقد أخْطَأ من ذكرهُ من المُفسِّرين‏.‏

ومن الموضُوع الحديث المروي عن أُبي بن كعب مرفوعًا في فضل القُرآن سُورة سُورة من أوَّله إلى آخره‏.‏

فروينَا عن المُؤمل بن إسْمَاعيل قال‏:‏ حدَّثني شيخ به، فقلتُ للشَّيخ من حدَّثكَ‏؟‏ فقال‏:‏ حدَّثني رَجُل بالمدائن، وهو حيٌّ، فصرتُ إليه فقلت‏:‏ من حدَّثك‏؟‏ فقال‏:‏ حدَّثني شيخ بواسط، وهو حي، فصرتُ إليه، فقال‏:‏ حدَّثني شيخ بالبَصْرة، فصرتُ إليه فقال‏:‏ حدَّثني شيخٌ بعبادان، فصرتُ إليه، فأخذَ بيدي فأدْخلني بيتًا، فإذا فيه قومٌ من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال‏:‏ هذا الشَّيخ حدَّثني، فقلتُ‏:‏ يا شيخ من حدَّثك‏؟‏ فقال‏:‏ لم يُحدِّثني أحد، ولكنَّا رأينا النَّاس قد رَغبُوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن‏.‏

قلت‏:‏ ولم أقف على تَسْمية هذا الشَّيخ، إلاَّ أنَّ ابن الجَوْزي أوردهُ في «الموضُوعات» من طريق بَزِيع بن حسَّان، عن علي بن زيد بن جُدْعان، وعطاء بن أبي ميمونة، عن زِرِّ بن حُبَيش، عن أُبيٍّ، وقال‏:‏ الآفة فيه من بزيع، ثمَّ أوردهُ من طريق مَخْلد بن عبد الواحد، عن عليِّ وعطاء وقال‏:‏ الآفة فيه من مَخْلد‏.‏

فكأنَّ أحدهما وضعهُ، والآخر سرقهُ، أو كلاهما سرقه من ذلك الشَّيخ الواضع‏.‏

وقد أخطأ من ذكرهُ من المُفسِّرين في تفسيره، كالثَّعلبي، والواحدي، والزَّمخشري، والبَيْضَاوي‏.‏

قال العِرَاقيُّ‏:‏ لكن من أبرز إسناده منهم كالأوَّلين فهو أبسط لعُذْره، إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السُّكوت عليه، وأمَّا من لم يُبرز سندهُ، وأورده بصيغة الجَزْمِ فخطُؤه أفْحش‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأوَّل‏:‏ من الباطل أيضًا في فضائل القُرآن سُورة سُورة حديث ابن عبَّاس، وضعهُ مَيْسرة كما تقدَّم، وحديث أبي أُمَامة الباهلي، أوردهُ الدَّيلمي من طريق سلام بن سُليم المَدَائني، عن هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عنه‏.‏

الثاني‏:‏ ورد في فضائل السور مفرقة أحاديث، بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف ليس بموضوع، ولولا خَشْيةُ الإطالة لأوردتُ ذلك هنا، لئلا يُتوهَّم أنَّه لم يصح في فضائل السور شيء، خُصوصًا مع قول الدَّارقُطْني‏:‏ أصح ما ورد في فضائل القُرآن فضل ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، ومن طالع كتب السنن، والزَّوائد عليها، وجدَ من ذلكَ شيئًا كثيرًا‏.‏

وتفسير الحافظ عماد الدِّين بن كثير أجل ما يُعتمد عليه في ذلك، فإنَّه أورد غالب ما جَاء في ذلك مِمَّا ليس بموضُوع، وإن فاته أشياء‏.‏

وقد جمعتُ في ذلكَ كِتَابا لطيفًا سَمَّيتهُ ُ«خمائل الزهر في فضائل السور» واعلم أنَّ السور الَّتي صحت الأحاديث في فضائلها‏:‏ الفاتحة، والزَّهْراوان، والأنعام، والسَّبع الطول مُجْمَلاً، والكهف، ويس، والدُّخان، والمُلك، والزَلْزلة، والنَّصر، والكافرون، والإخلاص، والمُعوِّذتان، وما عداها لم يصح فيه شيء‏.‏

الثَّالث‏:‏ من الموضُوع أيضًا‏:‏ حديث الأرز، والعَدْس، والبَاذنجان، والهَريسة، وفضائل من اسمهُ محمَّد وأحمد، وفضل أبي حنيفة، وعين سلوان، وعَسْقلان، إلاَّ حديث أنس الَّذي في «مسند» أحمد على ما قيلَ فيه من النكارة، ووصَايا علي، وضعها حمَّاد بن عَمرو النَّصيبي، ووصية في الجماع، وضعها إسحاق بن نجيح المَلْطي، ونُسخة العقل، وضعها داود المُحَبَّر، وأوردها الحارث بن أبي أُسامة في «مسنده»، وحديث القَس بن سَاعدة، أوردهُ البزار في «مسنده»، والحديث الطويل عن ابن عبَّاس في الإسراء، أوردهُ ابن مردويه في «تفسيره»، وهو نحو كُراسين، ونسخ ستة رووا عن أنس وهم‏:‏ أبو هُدْبة، ودينار، ونُعيم بن سالم، والأشج، وخِرَاش، ونسطُور‏.‏

النَّوع الثَّاني والعِشْرون‏:‏ المَقْلُوب

هو نَحْو حديثٍ مَشْهُور عن سَالمٍ، جُعِلَ عن نافع ليُرغبَ فيه‏.‏

النَّوع الثاني والعشرون‏:‏ المقلوب، هو قسمان‏:‏

الأوَّل‏:‏ أن يَكُون الحديث مَشْهورا براو، فيجعل مكانه آخر في طبقته نحو حديث مشهور عن سالم، جُعلَ عن نافع ليرغب فيه لغرابته، أو عن مالك، جُعلَ عن عُبيد الله بن عمر‏.‏

ومِمَّن كان يفعل ذلك من الوضَّاعين حمَّاد بن عَمرو النَّصيبي، وأبو إسماعيل إبراهيم بن أبي حَيَّة اليَسَع، وبُهلُول بن عُبيد الكِنْدي‏.‏

قال ابن دقيق العِيد‏:‏ وهذا هو الَّذي يُطْلق على راويه أنَّه يَسْرق الحديث‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ مثالهُ حديث رواه عَمرو بن خالد الحرَّاني، عن حمَّاد النَّصيبي، عن الأعْمش، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا‏:‏ «إذَا لقيتُم المُشْركين في طريقٍ، فلا تبدؤهم بالسَّلام‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ الحديث‏.‏

فهذا حديث مقلُوب، قَلبهُ حمَّاد، فجعله عن الأعمش، فإنَّما هو معروف بسهُيل بن أبي صالح عن أبيه، هكذا أخرجهُ مسلم من رِوَاية شُعبة، والثَّوري، وجرير بن عبد الحميد، وعبد العزيز الدَّرَاوردي كُلهم عن سُهيل‏.‏

قال‏:‏ ولهذَا كره أهل الحديث تتبع الغَرَائب، فإنَّه قلَّما يصح منها‏.‏

تنبيه‏:‏

قال البَلْقيني‏:‏ قد يقع القلب في المَتْن، قال‏:‏ ويُمكن تمثيلهُ بما رواهُ خُبَيب بن عبد الرَّحمن، عن عمَّته أنيسة مرفوعًا‏:‏ «إذا أذَّن ابن أم مكتُوم، فكلُوا واشربُوا، وإذا أذَّن بلال فلا تأكلُوا ولا تَشْربُوا‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ رواه أحمد وابن خُزيمة وابن حبَّان في «صحيحهما» والمشهور من حديث ابن عُمر وعائشة‏:‏ «إنَّ بلالاً يُؤذِّنُ بليلٍ، فكلُوا واشْربوا حتَّى يُؤذِّن ابن أم مَكْتُوم»‏.‏

قال‏:‏ فالرِّواية بِخلاف ذلكَ مقلُوبة، قالا‏:‏ إلاَّ أنَّ ابن حبَّان وابن خُزيمة لم يجعلا ذلك من المَقْلُوب، وجمعا باحتمال أن يَكُون بين بِلال وبين أم مكتُوم تناوب‏.‏

قال‏:‏ ومع ذلك فدعوَى القلب لا تبعد، ولو فتحنا باب التأويلات، لاندفعَ كثير من علل الحديث‏.‏

قال‏:‏ ويُمكن أن يُسَمَّى ذلك بالمعكُوس، فيفرد بنوع، ولم أر من تعرَّض لذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وقد مثَّل شيخُ الإسْلام في «شرح النُّخبة» القلب في الإسناد بنحو كعب بن مُرَّة، ومُرَّة بن كعب‏.‏

وفي المتن بحديث مُسلم في السَّبعة الَّذين يُظلهم الله‏:‏ «ورجل تصدَّق بِصَدقة أخفَاهَا، حتَّى لا تعلم يمينهُ ما تُنْفق شِمَالهُ»‏.‏ قال‏:‏ فهذا مِمَّا انقلبَ على أحد الرُّواة، وإنَّما هو‏:‏ «حتَّى لا تعلم شِمَاله ما تُنْفق يمينهُ»‏.‏ كما في «الصَّحيحين»‏.‏

قلتُ‏:‏ ووجدتُ مثالاً آخر، وهو ما رواه الطَّبراني من حديث أبي هُرَيْرة‏:‏ «إذَا أمرتكُم بشيء فائتوه، وإذا نهيتكُم عن شَيء فاجْتنبُوه ما استطعتُم»‏.‏ فإنَّ المعروف ما في «الصَّحيحين»‏:‏ «ما نَهيتكُم عنهُ فاجتنبُوه، وما أمرتكُم به فافعلُوا منهُ ما اسْتطعتُم»‏.‏

القِسْم الثَّاني‏:‏ أن يُؤخذ إسْناد متن، فيُجْعل على متن آخر وبالعكس، وهذا قد يُقصد به أيضًا الإغْراب، فيكُون كالوَضْع، وقد يُفعل اختبارًا لحفظ المُحدَِّث، أو لقَبُوله التَّلقين، وقد فعلَ ذلكَ شُعبة وحمَّاد بن سَلَمة وأهل الحديث‏.‏

وقلبَ أهل بغداد على البُخَاري مِئة حديث امتحانًا، فردَّها على وجُوهها، فأذْعنُوا بِفَضْلهِ‏.‏

وقلبَ أهل بغداد على البُخَاري لمَّا جاءهم مئة حديث امتحانًا، فردها على وجُوهها، فأذعنُوا بفضله وذلك فيما رواهُ الخطيب‏:‏ حدَّثني محمَّد بن أبي الحسن السَّاحلي، أخبرنا أحمد بن حسن الرَّازي، سمعت أبا أحمد بن عَدِي يقول‏:‏ سمعتُ عدَّة مشايخ يحكُون‏:‏ أنَّ محمَّد بن إسماعيل البُخَاري قَدِمَ بغداد، فسمعَ به أصحاب الحديث، فاجتمعُوا وعمدُوا إلى مئة حديث، فقلبُوا مُتونها وأسَانيدها، وجعلُوا متن هذا الإسْنَاد لإسْنَاد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوهُ إلى عَشْرة أنفس، إلى كلِّ رجل عشرة، وأمروهم إذا حضرُوا المَجْلس يُلْقون ذلك على البُخَاري، وأخذوا الوعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغُرَباء، من أهل خُرَاسان وغيرهم من البغداديين، فلمَّا اطمأن المجلس بأهله، انتدب إليه رَجُل من العشرة، فسألهُ عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البُخَاري‏:‏ لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال‏:‏ لا أعرفه، فما زال يُلْقي عليه واحدًا بعد واحد، حتَّى فرغَ من عشرته، والبُخَاري يَقُول‏:‏ لا أعرفه، فكان الفُهماء مِمَّن حضرَ المَجْلس يلتفتُ بعضهم إلى بعض ويقولُون‏:‏ الرَّجُل فَهِمَ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البُخَاري بالعَجْزِ والتَّقصير وقِلَّة الفهم، ثمَّ انتدبَ إليه رَجُل آخر من العَشْرة، فسَألهُ عن حديثٍ من تلكَ الأحاديث المقلُوبة، فقال البُخَاري‏:‏ لا أعرفهُ، فلم يَزَل يُلقي إليه واحدًا بعد واحد، حتَّى فرغ من عَشرته، والبُخَاري يقول‏:‏ لا أعرفهُ، ثمَّ انتدبَ إليه الثَّالث والرابع، إلى تمام العَشْرة، حتَّى فرغُوا كلهم من الأحاديث المقلُوبة، والبُخَاري لا يَزيدهُم على‏:‏ لا أعرفه، فلمَّا علم البُخَاري أنَّهم قد فرغُوا، التفتَ إلى الأوَّل منهم فقال‏:‏ أمَّا حديثكَ الأوَّل فهو كذا، وحديثك الثَّاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتَّى أتى على تَمَامِ العَشْرة، فردَّ كل مَتْن إلى إسْنَاده، وكل إسْنَاد إلى متنهِ، وفعل بالآخرين مثلَ ذلك وردَّ مُتُون الأحاديث كلها إلى أسَانيدها وأسَانيدها إلى مُتُونها، فأقرَّ له النَّاس بالحِفْظ، وأذْعنُوا له بالفَضْل‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأوَّل‏:‏ قال العِرَاقي‏:‏ في جَوَاز هذا الفعل نَظَر، لأنَّه إذَا فعلهُ أهل الحديث لا يَسْتقر حديثًا، وقد أنكر حرمي على شُعبة لما قلبَ أحاديث على أبان بن أبي عيَّاش وقال‏:‏ يا بئسَ ما صنع، وهذا يحل‏؟‏

الثاني‏:‏ قد يقع القلب غلطًا لا قصدًا، كما يقع الوَضْع كذلك، وقد مثَّله ابن الصَّلاح بحديثٍ رواهُ جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا‏:‏ «إذَا أُقِيمت الصَّلاة، فلا تَقُومُوا حتَّى تروني»‏.‏

فهذا حديثٌ انقلبَ إسنادهُ على جرير، وهو مشهور ليحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه الأئمة الخمسة، وهو عند مُسلم والنَّسائي من رِوَاية حَجَّاج بن أبي عُثمان الصَّواف عن يحيى، وجرير إنَّما سمعه من حَجَّاج، فانقلب عليه، وقد بيَّن ذلكَ حمَّاد بن زيد فيما رواهُ أبو داود في «المَرَاسيل» عن أحمد بن صالح، عن يحيى بن حسَّان عنهُ قال‏:‏ كنتُ أنا وجرير عند ثابت، فحدَّث حجَّاج، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، فظنَّ جرير أنَّه إنَّما حدَّث به ثابت عن أنس‏.‏

الثَّالث‏:‏ هذا آخر ما أوردهُ المُصنِّف من أنواع الضَّعيف، وبقي عليه المترُوك، ذكرهُ شيخ الإسْلام في «النُّخْبة» وفسَّرهُ بأن يرويه من يُتَّهم بالكذب، ولا يُعْرف ذلك الحديث إلاَّ من جهته، ويَكُون مُخَالفًا للقواعد المعلومة‏.‏

قال‏:‏ وكذا من عُرف بالكذب في كلامه، وإن لم يظهر منهُ وقوعه في الحديث، وهو دون الأوَّل‏.‏ انتهى‏.‏

وتقدَّمت الإشَارة إليه عقب الشَّاذ والمنكر‏.‏

الرَّابع‏:‏ تقدَّم أن شر الضعيف الموضُوع، وهذا أمْرٌ متفق عليه، ولم يذكر المُصنِّف ترتيب أنواعهُ بعد ذلك، ويليه المترُوك، ثمَّ المُنْكر، ثمَّ المُعلَّل، ثمَّ المُدْرج، ثمَّ المقلوب، ثمَّ المُضْطرب، كذا رتَّبهُ شيخ الإسلام‏.‏

وقال الخطَّابي‏:‏ شرها الموضُوع، ثمَّ المَقْلوب، ثمَّ المجهول‏.‏

وقال الزَّركشي في «مختصره»‏:‏ ما ضعفه لا لعدم اتِّصاله سَبْعة أصْنَاف، شَرُّها الموضُوع، ثمَّ المُدْرج، ثمَّ المَقلُوب، ثمَّ المُنْكر، ثمَّ الشَّاذ، ثمَّ المُضْطرب‏.‏ انتهى‏.‏

قلتُ‏:‏ وهذا ترتيبٌ حسن، وينبغي جعل المترُوك قبل المُدْرج، وأن يُقَال فيما ضعفهُ لعدم اتِّصال‏:‏ شره المُعضل، ثمَّ المُنقطع، ثمَّ المُدلَّس، ثمَّ المُرْسل، وهذا واضحٌ‏.‏

ثمَّ رأيتُ شيخنَا الإمام الشَّمني نقلَ قول الجَوْزقاني‏:‏ المُعضل أسْوأ حالاً من المُنقطع، والمُنقطع أسوأ حالا من المُرْسل‏.‏

وتعقَّبهُ بأنَّ ذلك إذا كان الانقطاع في موضوع واحد، وإلاَّ فهو يُسَاوي المُعضل‏.‏

فرعٌ‏:‏ إذَا رأيت حديثًا بإسْنادٍ ضعيف، فلكَ أن تَقُول‏:‏ هو ضعيفٌ بهذا الإسْنَاد، ولا تَقُل‏:‏ ضعيفُ المَتْن لمُجَرَّد ضعف ذلكَ الإسْناد، إلاَّ أن يَقُول إمامٌ‏:‏ إنَّه لم يرو من وجْهٍ صحيح، أو إنَّه حديثٌ ضعيف، مُفسِّرًا ضعفه، فإن أطلقَ ففيه كلامٌ يأتي قريبًا‏.‏

فرع فيه مسائل تتعلق بالضَّعيف إذا رأيتَ حديثًا بإسنادٍ ضعيف، فلكَ أن تقول‏:‏ هو ضعيف بهذا الإسْناد، ولا تقل‏:‏ ضعيف المتن ولا ضعيف، ولا تطلق لمجرَّد ضعف ذلكَ الإسْنَاد فقد يكون له إسناد آخر صحيح إلاَّ أن يقول إمام‏:‏ إنَّه لم يُرو من وجه صحيح أو ليس له إسْنَاد يثبت به أو إنَّه حديث ضعيف، مُفسرًا ضعفه، فإن أطلق الضَّعيف ولم يُبيِّن سببه ففيه كلام يأتي قريبا في النَّوع الآتي‏.‏

فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ إذا قال الحافظ المُطَّلع الناقد في حديث‏:‏ لا أعرفهُ، اعْتُمد ذلك في نفيه، كما ذكر شيخ الإسلام‏.‏

فإن قيل‏:‏ يُعارض هذا ما حُكى عن أبي حازم‏:‏ أنَّه روى حديثًا بحضرة الزُّهْري فأنكرهُ وقال‏:‏ لا أعرفُ هذا‏.‏ فقيل له‏:‏ أحفظتَ حديث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كلهُ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فنصفه‏؟‏ قال‏:‏ أرجُو‏.‏ قال‏:‏ اجعل هذا من النِّصف الَّذي لم تعرفه، هذا وهو الزُّهْري، فما ظنَّكَ بغيره‏.‏

وقريبٌ منه ما أسندهُ ابن النجَّار في «تاريخه» عن ابن أبي عَائشة قال‏:‏ تكلَّم شاب يومًا عند الشَّعبي، فقال الشَّعبي‏:‏ ما سمعنَا بهذا‏؟‏ فقال الشَّاب‏:‏ كل العلم سمعتَ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فشِطْرهُ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فاجعل هذا في الشِّطر الَّذي لم تسمعهُ، فأفحم الشَّعبي‏.‏

قُلنا‏:‏ أُجيب عن ذلك بأنَّه كان قبل تدوين الأخبار في الكُتب، فكان إذ ذاك عند بعض الرُّواة ما ليسَ عند الحُفَّاظ، وأمَّا بعد التدوين والرُّجُوع إلى الكُتب المُصنَّفة فيَبْعُد عدم الاطلاع من الحافظ الجَهْبذ، على ما يُوردهُ غيره، فالظَّاهر عدمه‏.‏

الثَّانية‏:‏ ألَّف عُمر بن بدر المَوْصلي، وليسَ من الحُفَّاظ كتابًا في قولهم‏:‏ لم يصح شيء في هذا الباب، وعليه في كثير مِمَّا ذكره انتقاد‏.‏

الثَّالثة‏:‏ قولهم‏:‏ هذا الحديث ليسَ له أصلٌ، أو لا أصلَ له‏.‏

قال ابن تيمية‏:‏ معناهُ ليسَ لهُ إسْنادٌ‏.‏

وإذَا أردتَ رِوَايةَ الضَّعيف بغير إسْنادٍ، فلا تَقُل‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وما أشبههُ من الجَزْم، بل قُل‏:‏ رُوي كذا، أو بلغنا كذا، أو وردَ، أو جَاء، أو نُقلَ، وما أشْبَههُ، وكذا ما تَشُك في صِحَّته، ويَجُوز عِنْد أهل الحديث وغيرهم التَّساهُل في الأسَانيد، ورِوَاية ما سِوَى الموضُوع من الضَّعيف، والعمل به من غير بَيَان ضعفه، في غير صِفَات الله تعالى، والأحْكَام، كالحَلالِ والحَرَام، ومِمَّا لا تعلُّق له بالعَقَائد والأحْكَام‏.‏

وإذا أردتَ رِوَاية الضَّعيف بغيرِ إسْناَدٍ، فلا تَقُل‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وما أشبهه من صيغ الجَزْم بأنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قاله بل قُل‏:‏ رُوي عنه كذا، أو بلغنا عنه كذا، أو ورد عنه أو جاء عنه كذا أو نقل عنه كذا وما أشبهه من صِيغ التَّمريض، كَرَوَى بعضهم وكذا تقول في ما تَشُك في صِحَّته وضعفه، أما الصَّحيح فاذكره بصيغة الجزم، ويُقبح فيه صيغة التَّمريض، كما يُقبح في الضعيف صيغة الجزم‏.‏

ويَجُوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسَانيد الضَّعيفة ورِوَاية ما سِوَى الموضُوع من الضَّعيف، والعَمل بهِ من غير بَيَان ضعفهِ في غير صِفَات الله تعالى وما يَجُوز ويستحيل عليه، وتفسير كلامه والأحكام كالحَلال والحرام و غيرهما، وذلكَ كالقَصَص، وفَضَائل الأعْمال، والمَوَاعظ، وغيرها مِمَّا لا تعلق له بالعقائد والأحكام‏.‏

ومِمَّا نُقل عنه ذلك ابن حنبل، وابن مَهْدي، وابن المُبَارك، قالُوا‏:‏ إذَا روينا في الحلال والحرام شَدَّدنا، وإذا روينَا في الفَضَائل ونحوها تساهلنا‏.‏

تنبيه‏:‏

لم يذكُر ابن الصَّلاح والمُصنِّف هُنَا، وفي سائر كُتبه لما ذكر سِوَى هذا الشَّرط، وهو كونهُ في الفَضَائل ونحوها، وذكر شيخُ الإسْلام له ثلاثة شروط‏:‏

أحدها‏:‏ أن يَكُون الضَّعف غير شديد، فيَخْرُج من انفرد من الكذَّابين والمُتَّهمين بالكذب، ومن فَحُش غلطه، نقل العلائي الاتفاق عليه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يَنْدرج تحت أصل مَعْمُول به‏.‏

الثَّالث‏:‏ أن لا يعتقد عند العَمَل به ثُبوته، بل يعتقد الاحتياط‏.‏

وقال‏:‏ هذان ذكرهُمَا ابن عبد السَّلام وابن دقيق العِيد‏.‏

وقيلَ‏:‏ لا يَجُوز العمل به مُطْلقًا، قاله أبو بكر بن العَرَبي‏.‏

وقيل‏:‏ يُعمل به مُطْلقًا، وتقدَّم عزو ذلك إلى أبي داود وأحمد، وإنَّهما يريان ذلك أقْوَى من رأي الرِّجال‏.‏

وعِبَارة الزَّركشي‏:‏ الضَّعيف مردود، ما لم يقتض ترغيبًا، أو ترهيبًا، أو تتعدد طُرقه، ولم يكن المُتابع مُنحطًّا عنه‏.‏

وقيل‏:‏ لا يُقبل مطلقًا‏.‏

وقيل‏:‏ يُقبل، إن شهدَ لهُ أصل، واندرجَ تحت عموم‏.‏ انتهى‏.‏

ويُعمل بالضَّعيف أيضًا في الأحْكَام إذا كان فيه احتياط‏.‏